| تاريخ كتابة المُساهمة الجمعة أبريل 02, 2010 3:26 am | |
| المحبة والشوق والأنس والرضا
وهو الكتاب السادس من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي قدّس الله سرّه وأعلى مراتبه في الآخرة، ونفعنا به وبعلومه وأنواره وبركاته وأسراره في الدارين...آمين
"الحمد لله الذي نزه قلوب أوليائه عن الالتفات إلى زخرف الدنيا ونضرته، وصفى أسرارهم من ملاحظة غير حضرته، ثم استخلصها للعكوف على بساط عزته، ثم تجلى لهم بأسمائه وصفاته حتى أشرقت بأنوار معرفته، ثم كؤف لهم عن سبحات وجهه حتى احترقت بنار محبته، ثم احتجب عنها بكنه جلاله حتى تاهت في بـيداء كبريائه وعظمته، فكلما اهتزت لملاحظة كنه الجلال غشيها من الدهش ما أغبر في وجه العقل وبصيرته، وكلما همت بالانصراف آيسة نوديت من سرادقات الجمال صبراً أيها الآيس عن نيل الحق بجهله وعجلته، فبقيت بـين الرد والقبول والصدّ والوصول غرقى في بحر معرفته، ومحترقة بنار محبته، والصلاة على محمد خاتم الأنبـياء بكمال نبوّته، وعلى آله وأصحابه سادة الخلق وأئمته، وقادة الحق وأزمته وسلم كثيراً.
أما بعد: فإنّ المحبة لله هي الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها وتابع من توابعها كالشوق والأنس والرضا وأخواتها، ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدّمة من مقدماتها كالتوبة والصبر والزهد وغيرها، وسائر المقامات إن عز وجودها فلم تخل القلوب عن الإيمان بإمكانها، وأما محبة الله تعالى فقد عز الإيمان بها حتى أنكر بعض العلماء إمكانها وقال: لا معنى لها إلا المواظبة على طاعة الله تعالى وأما حقيقة المحبة فمحال إلا مع الجنس والمثال. ولما أنكروا المحبة أنكروا الأنس والشوق ولذة المناجاة وسائر لوازم الحب وتوابعه. ولا بدّ من كشف الغطاء عن هذا الأمر.
ونحن نذكر في هذا الكتاب: بـيان شواهد الشرع في المحبة، ثم بـيان حقيقتها وأسبابها، ثم بـيان أن لا مستحق للمحبة إلا الله تعالى، ثم بـيان أنّ أعظم اللذات لذة النظر إلى وجه الله تعالى، ثم بـيان سبب زيادة النظر في الآخرة على المعرفة في الدنيا، ثم بـيان الأسباب المقوّية لحب الله تعالى، ثم بـيان السبب في تفاوت الناس في الحب، ثم بـيان السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى، ثم بـيان معنى الشوق، ثم بـيان محبة الله تعالى للعبد، ثم القول في علامات محبة العبد لله تعالى، ثم بـيان معنى الأنس بالله تعالى، ثم بـيان معنى الانبساط في الأنس، ثم القول في معنى الرضا وبـيان فضيلته، ثم بـيان حقيقته، ثم بـيان أنّ الدعاء وكراهة المعاصي لا تناقضه وكذا الفرار من المعاصي، ثم بـيان حكايات وكلمات للمحبـين متفرقة، فهذه جميع بـيانات هذا الكتاب.
بـيان شواهد الشرع في حب العبد لله تعالى:
اعلم أنّ الأمة مجمعة على أنّ الحب لله تعالى ولرسوله فرض، وكيف يفرض ما لا وجود له وكيف يفسر الحب بالطاعة والطاعة تبع الحب وثمرته؟ فلا بدّ وأن يتقدّم الحب ثم بعد ذلك يطيع من أحب. ويدل على إثبات الحب لله تعالى قوله عز وجل: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقوله تعالى: {والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُباً للَّهِ} وهو دليل على إثبات الحب وإثبات التفاوت فيه.
وقد جعل رسول الله الحب لله من شرط الإيمان في أخبار كثيرة؛ إذ قال أبو رزين العقيلي: يا رسول لله ما الإيمان؟ قال: «أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِمَّا سِوَاهُمَا» ،
وفي حديث آخر ، «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا»
وفي حديث آخر: «لا يُؤْمِنُ العَبْدُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» وفي رواية: «وَمِنْ نَفْسِهِ» كيف وقد قال تعالى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤكُمْ وأبْنَاؤكُمْ وإخْوَانُكُمْ} الآية. وإنما أجرى ذلك في معرض التهديد والإنكار.
وقد أمر رسول الله بالمحبة فقال: «أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحَبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ إيَّايَ» ..." اهـ. ويروى أنّ رجلاً قال: يا رسول الله إني أحبك، فقال : «استعدّ للفقر» فقال إني أحب الله تعالى، فقال: «اسْتَعِدَّ لِلْبَلاءِ» ،
وعن عمر رضي الله عنه قال: نظر النبـي إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به، فقال النبـي : «انْظُرُوا إلَى هذا الرَّجُلِ الَّذِي نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَـيْنَ أَبَوَيْهِ يغذوَانِهِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَدَعَاهُ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى ما تَرَوْنَ» .
وفي الخبر المشهور: «إن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه: هل رأيت محباً يكره لقاء حبـيبه؟ فقال يا ملك الموت الآن فاقبض» ، وهذا لا يجده إلا عبد يحب الله بكل قلبه فإذا علم أن الموت سبب اللقاء انزعج قلبه إليه ولم يكن له محبوب غيره حتى يلتفت إليه.
وقد قال نبـينا في دعائه: «اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ أَحَبَّكَ ما يُقَرِّبُنِي إلَى حُبِّكَ وَاجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إلَيَّ مِنَ المَاءِ البَارِدِ» ،
وجاء أعرابـي إلى النبـي فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «ما أَعْدَدْتَ لَهَا» فقال: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله فقال له رسول الله : «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» ، قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: من ذاق من خالص محبة الله تعالى شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر.
وقال الحسن: من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا زهد فيها، والمؤمن لا يلهو حتى يغفل فإذا تفكر حزن.
وقال أبو سليمان الداراني: إن من خلق الله خلقاً ما يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون عنه بالدنيا؟." اهـ. "ويروى أن عيسى عليه السلام مرَّ بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا: الخوف من النار، فقال: حق على الله أن يؤمن الخائف. ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشدّ نحولاً وتغيراً فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الشوق إلى الجنة، فقال: حق على الله أن يعطيكم ما ترجون، ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً كأن على وجوههم المرائي من النور، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: نحب الله عز وجل، فقال أنتم المقرّبون أنتم المقرّبون أنتم المقرّبون.
وقال عبد الواحد بن زيد: مررت برجل قائم في الثلج فقلت أما تجد البرد؟ فقال من شغله حب الله لم يجد البرد.
وعن سري السقطي: تدعى الأمم يوم القيامة بأنبـيائها عليهم السلام فيقال يا أمة موسى ويا أمة عيسى ويا أمة محمد غير المحبـين لله تعالى فإنهم ينادون يا أولياء الله هلموا إلى الله سبحانه، فتكاد قلوبهم تنخلع فرحاً." اهـ. "وقال هرم بن حيان: المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه وإذا أحبه أقبل إليه، وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة وهي تحسره في الدنيا وتروّحه في الآخرة.
وقال يحيــى بن معاذ: عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال فكيف حبه؟ وحبه يدهش العقول فكيف وده؟ ووده ينسى ما دونه فكيف لطفه؟
وفي بعض الكتب: عبدي أنا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لي محباً.
وقال يحيــى بن معاذ: مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب.
وقال يحيـى بن معاذ: إلهي إني مقيم بفنائك مشغول بثنائك، صغيراً أخذتني إليك وسربلتني بمعرفتك وأمكنتني من لطفك ونقلتني في الأحوال وقلبتني في الأعمال ستراً وتوبة وزهداً وشوقاً ورضاً وحباً تسقيني من حياضك وتهملني في رياضك ملازماً لأمرك ومشغوفاً بقولك، ولما طرّ شاربـي ولاح طائري فكيف أنصرف اليوم عنك كبـيراً وقد اعتدت هذا منك صغيراً، فلي ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأني محب وكل محب بحبـيبه مشغوف وعن غير حبـيبه مصروف." اهـ.
|
|
| تاريخ كتابة المُساهمة الجمعة أبريل 02, 2010 4:51 am | |
| رد: المحبة والشوق والأنس والرضا
موضوع جميل مشكورعلى المجهود وننتظرك ابداعاتك ومشاركاتك الرائعة [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
|
|
| |
| |